فصل: تفسير الآية رقم (157):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (157):

{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
قوله جلّ ذكره: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِىَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَآئِثَ}.
أظهر شرفَ المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بقوله: {النَّبِىِّ الأُمِّىّ} أي أنه لم يكن شيء من فضائله وكمال علمه وتهيؤه إلى تفصيل شرعه مِنْ قِبَلِ نَفْسِه، أو من تعلُّمه وتكلُّفه، أو من اجتهاده وتصرُّفه.. بل ظهر عليه كلُّ ما ظهر مِنْ قِبَله- سبحانه- فقد كان هو أميَّاً غير قارئٍ للكتب، ولا مُتَتَبِّعٍ للسِّيرَ.
ثم قال: {يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ}: والمعروف هو القيام بحق الله، والمنكر هو البقاء بوصف الحظوظ وأحكام الهوى، والتعريج في أوطان المُنَى، وما تصوِّره للعبد تزويراتُ الدعوى. والفاصلُ بين الجسمين، والمميِّزُ بين القسمين- الشريعةُ، فالحَسَنُ من أفعال العباد ما كان بنعت الإذن من مالك الأعيان فلَهُم ذلك، والقبيح ما كان موافقاً لِلنَّهْيِ والزجرِ فليس لهم فعل ذلك.
قوله جلّ ذكره: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.
الإصرُ الثُّقلُ، ولا شيءَ أثقلُ من كَدِّ التدبير، فَمَنْ ترك كد التدبير إلى روْح شهود التقدير، فقد وُضِع عنه كلُّ إصر، وكُفِيَ كُلَّ وِزر وأمر.
والأغلالُ التي كانت عليهم هي ما ابتدعوه مِنْ قبَلِ أنفسهم باختيارهم في التزامِ طاعات اله ما لم يُفْتَرضْ عليهم، فَوُكِلُوا إلى حَوْلِهمُ ومُنَّتِهم فيها؛ فأهملوها، ونقضوا عهودهم.
ومَنْ لَقِيَ- بخصائص الرضا- ما تجري به المقادير، وشَهِدَ الحقَّ في أجناس الأحداث، فقد خُصَّ بكل نعمة وفضل.
قوله جلّ ذكره: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}.
اعترف لهم بنصرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان الله حسيبه، ومَنْ كان استقلاله بالحق لم يقف انتعاشه على نصرة الخلق.

.تفسير الآية رقم (158):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}
صَرِّحْ بما رقَّيْنَاكَ إليه من المقام، وأفصِحْ عما لقيناك به من الإكرام، قُلْ إني إلى جماعتكم مُرسلٌ، وعلى كافتكم مُفَضَّل، وديني- لِمَنْ نظر واعتبر، وفكَّر وسَبَرَ- مُفَصَّل. فإِلهي الذي لا شريكَ له ينازعه، ولا شبيهَ يُضَارِعه له حقُّ التصرف في مُلْكِه بما يريد من حكمه. ومن جملة ما حكم وقضى، ونفذ به التقدير وأَمْضى- إرسالي إليكم لتطيعوه فيما يأمركم، وتحذروا من ارتكاب ما يزجركم. وإِنَّ مما أَمَرَكُم به أنه قال لكم: آمِنوا بالنبي الأُمِّي، واتبعوه لتُفْلِحوا في الدنيا والعقبى، وتستوجبوا الزُّلفى والحسنى، وتتخلصوا من البلوى والهوى.

.تفسير الآية رقم (159):

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}
هم الذين سبقت لهما لعناية، وصدقت فيهم الولاية فبقوا على الحق من غير تحريف ولا تحويل، وأدركتهم الرحمةُ السابقةُ، فلم تتطرق إليهم مفاجأة تغيير، ولا خفيُّ تبديل.

.تفسير الآية رقم (160):

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}
فَرَّقهم أصنافاً، وجعلهم في التحزب أخيافاً، ثم كفاهم ما أَهَمهُم، وأعطاهم ما لم يكن لهم بُدٌّ منه فيما نابَهم؛ فظللنا عليهم ما وقاهم أذى الحرِّ والبرد، وأنزلنا عليهم المَنَّ والسَّلوى مما نفى عنهم تعبَ الجوعِ والجهد والسعي والكد، وفجَّرنا لهم العيونَ عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عياناً، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين، ولكن ليست العِبْرةُ بأفعال الخَلْقِ ولا بأعمالهم إنما المدارُ على مشيئة الحق، سبحانه وتعالى فيما يُمضِي عليهم من فنون أحوالهم.

.تفسير الآية رقم (161):

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}
يخبر عما ألزمهم من مراعاة الحدود، وما حصل منهم من نقض العهود. وعما ألزمهم من التكليف، ولقَّاهم به من صنوف التعريف، وإكرامه من شاءَ منهم بالتوفيق والتصديق، وإذلاله من شاء منهم بالخذلان وحرمان التحقيق، ثم ما عاقبهم به من فنون البلاء فما لقوا تعريفاً، وأذاقهم من سوء الجزاء، حُكْماً- من الله- حتما، وقضاء جزماً.

.تفسير الآية رقم (162):

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
جاء في التفسير أنهم زادوا حرفاً في الكلمة التي قيلت لهم فقالوا: حنطة بدل {حِطَّة} فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفاً أن الزيادةَ في الدين، والابتداعَ في الشرع عظيمُ الخَطَرَ، ومجاوزةُ حدِّ الأمر شديدُ الضرر.
ويقال إذا كان تغييرُ كلمةٍ هي عبارة عن التوبة يوجب كل ذلك العذاب- فما الظنُّ بتغيير ما هو خبرٌ عن صفات المعبود؟
ويقال إنَّ القولَ أَنْقَصُ من العمل بكلِّ وجهٍ- فإذا كان التغيير في القول يُوجِبُ كلَّ هذا.. فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل؟

.تفسير الآية رقم (163):

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}
كان دينهم الأخذ بالتأويل، وذلك رَوَغَانٌ- في التحقيق، وإن الحقائق تأبى إلا الصدق، وإنَّ التعريج في أوطان الحظوظ والجنوحَ إلى محتملات الرُّخَص فسْخٌ لأكيد مواثيق الحقيقة، ومن شاب شوِّبَ له، ومن صَفَّى صفي له.

.تفسير الآية رقم (164):

{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}
الحقائق- وإن كانت لازمة- فليست للعبد عند لوازم الشرع عاذِرةً بل الوجوبُ يُفْترَضُ شرعاً، وإن كان التقدير غالباً بكل وجه.

.تفسير الآية رقم (165):

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}
إذا تمادى العبد في تَهتُّكِه، ولم يُبالِ بطول الإمهال والسَّتْر لم تُهْمِلْ يدُ التقرير عن استئصال العين، ومحو الأثر، وسرعة الحساب، وتعجيل العذاب الأدنى قبل هجوم الأكبر. ثم البرءُ في فضاء السلامة، وتحت ظِلِّ الحفظ، ودوام روْح التخصيص وبَرْدِ عيش التقريب.

.تفسير الآية رقم (166):

{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
إذا انتهت مدةُ الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبدُ من عين الله لم ينتعشْ بعده أبداً، فمن أسقطه حكمُ الملوك فلا قبول له بعد الردِّ، وفي معناه أنشدوا:
إذا انصرفَتْ نفسي عن الشيء لم تكَدْ ** إليه بوجهٍ آخرَ الدهرِ تُقْبَلُ

.تفسير الآية رقم (167):

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}
إذا الحقُّ- سبحانه- أمضى سُنَتَه بالإنذار وتقديم التعريف بما يستحقه كلُّ أحد على ما يحصل منه من الآثار إبداءٌ للعذر- وإنْ جلت رتبته عن كل عذر- فإِنْ يَنْجَعْ فيهم القولُ وإلا دَمَّرَ عليهم بالعذاب.

.تفسير الآية رقم (168):

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
أجراهم على ما علم أنهم يكونون عليه من صلاح وسداد، ومَعَاص وفساد. ثم ابتلاهم بفنون الأفعال من محنٍ أزاحها، ومن مِنَنٍ أتاحها، وطالبهم بالشكر على ما أسدى، والصبرِ على ما أبلى، ليظهر للملائكة والخلائق أجمعين جواهرَهم في الخلاف والوفاق، والإخلاص والنفاق؛ فأمَّا الحسناتُ فهي ما يُشْهِدهم المُجْرِي، ولا يُلْهِيهم عن المُبْدي، وأمَّا السيئاتُ فالتردد بين الإنجاز والتأخير، والإباحة والتقصير.
ويقال الحسنة أن يُنْسِيَكَ نفسك، والسيئة أَنْ يُشْهِدَكَ نفسك.
ويقال الحسنات بتيسير وقتٍ عن الغفلات خالٍ، وتسهيل يومٍ عن الآفات بائن. والسيئاتُ التي ابتلاهم بها خذلانٌ حاصل وحرمانٌ متواصل.

.تفسير الآية رقم (169):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)}
قوله جلّ ذكره: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيَغْفَرُ لَنَا}.
استوجبوا الذم بقوله- سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} لأنهم آثروا العَرَض الأدنى، وركنوا إلى عاجل الدنيا، وجعلوا نصيبهم من الآخرة المنى فقالوا: {سَيُغْفَرُ لَنَا}.
ويقال من أمارات الاستدراج ارتكابُ الزلة، والاغترارُ بزمان المُهْلة، وحَمْلُ تأخيرِ العقوبة على استحقاق الوصلة.
قوله جلّ ذكره: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوه}.
أخبر عن إصرارهم على الاغترار بالمنى، وإيثار متابعة الهوى.
قوله جلّ ذكره: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى الله إِلاَّ}.
استفهام في معنى التقرير، أي أُمِروا ألا يَصِفُوا الحقَّ إلا بنعت الجلال، واستحقاق صفات الكمال، وألا يتحاكموا عليه بما لم يأتِ منه خبر، ولم يشهد بصحته برهانٌ ولا نظر.
قوله جلّ ذكره: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
يعني تحققوا بمضمون الكتاب ثم جحدوا بعد لوح البيان وظهور البرهان. يعني التعرضُ لنفحات فضله- سبحانه- خيرٌ لمن أَمَّلَ جودَه من مقاساة التعب ممن بَذَلَ- في تحصيل هواه- مجهودَه.

.تفسير الآية رقم (170):

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ يُمْسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ}.
يمسكون بالكتاب إيماناً، وأقاموا الصلاة إحساناً، فبالإيمان وجدوا الأَمَان، وبالإحسان وجدوا الرضوان؛ فالأَمانُ مُعَجَّل والرضوان مؤجل. ويقال: {يمسكون بالكتاب} سبب النجاة، وإقامة الصلاة تحقق المناجاة. فالنجاة في المآل والمناجاة في الحال.
ويقال أفرد الصلاة هاهنا بالذكر عن جملة الطاعات ليُعْلمَ أنها أفضل العبادات بعد معرفة الذات والصفات.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ}.
مَنْ أَمَّلَ سببَ إنعامنا لم تَخْسِرْ له صفقة، ولم تخْفِق له في الرجاء رفقة، ويقال من نقل (...) إلى بابه قَدَمَه لم يَعْدم في الآجل نِعمَهَ، ومَنْ رَفَعَ إلى ساحاتِ جوده هِمَمَه نالَ في الحالِ كرمه.
ويقال مَنْ تَوَصَّلَ غليه بجوده نال في الدارين شَرَفَه. ومن اكتفى بجوده كان اللهُ عنه خَلَفَه.

.تفسير الآية رقم (171):

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}
ليس من يأتي طوعاً كمن يأتي جَبْراً، فإن الذي يأتي قهراً لا يعرف للحق- سبحانه- قدراً، وفي معناه أنشدوا:
إذا كان لا يرضيك إلا شفاعة ** فلا خير في ود يكون لشافعِ

وأنشدوا:
إذا أنا عاتبتُ الملولَ فإنَّما ** أَخُطُّ بأقلامي على الماء أَحْرُفَا

وَهَبْهُ ارْعَوَى بعد العتاب ** ألم يكن تودده طبعاً فصار تكلُّفا

ويقال قصارى من أتى خيراً أن ينكص على عقبيه طوعاً، كذلك لمَّا قابلوا الكتاب بالإجبار ما لبثوا حتى قابلوه بالتحريف.

.تفسير الآيات (172- 173):

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}
أخبر هذه الآية عن سابق عهده، وصادق وعده، وتأكيد عناج ودِّه، بتعريف عبده، وفي معناه أنشدوا:
سُقياً لليْلَى والليالي التي ** كُنَّا بَلَيْلَى نلتقي فيها

أفديكِ بل أيامُ دهري كلها ** يفدين أياماً عَرَفْتُكِ فيها

ويقال فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بَصَرٌ، أو ظهر في قلوبهم لمصنوع أَثَرٌ، أو كان لهم من حميمٍ أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفي معناه أنشدوا:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ** فصادق قلباً فارغاً فتمكنَّا

ويقال جمعهم في الخطاب ولكنه فَرَّقهم في الحال. وطائفةٌ خاطبهم بوصف القربة فعرَّفهم في نفس ما خاطبهم، وفِرْقةٌ أبقاهم في أوطان الغيبة فأقصاهم عن نعت العرفان وحجبهم.
ويقال أقوام لاطَفَهم في عين ما كاشَفَهم فأقروا بنعت التوحيد، وآخرون أبعدهم في نفس ما أشهدهم فأقروا عن رأس الجحود.
ويقال وَسَمَ بالجهل قوماً فألزمهم بالإشهاد بيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد، وآخرين أشهدهم واضِحَ الحجة (...).
ويقال تجلَّى لقوم فتولَّى تعريفهم فقالوا: بلى عن حاصل يقين، وتَعَزَّزَ عن آخرين فأثبتهم في أوطان الجحد فقالوا: بلى عن ظنٍ وتخمين.
ويقال جمع المؤمنين في الأسماء ولكن غاير بينهم في الرتب؛ فَجَذَبَ قلوبَ قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبَارِّ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار.
ويقال فرقةٌ ردَّهم إلى الهيبة فهاموا، وفِرْقَةٌ لاطفَهم بالقربة فاستقاموا.
ويقال عرَّف الأولياء أنه مَنْ هو فتحققوا بتخليصهم، ولَبَّسَ على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم.
ويقال أسمعهم وفي نفس أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم- بحسن التولي- أحكامَ التكليف وكان- سبحانه- لهم مُكَلِّفاً، وعلى ما أراده مُصَرِّفاً، وبما استخلصهم له مُعَرِّفاً، وبما رقاهم إليه مُشَرّقاً.
ويقال كاشف قوماً- في حال الخطاب- بجماله فطوحهم في هيمان حبه، فاستمكنت محابُّهم في كوامن أسرارهم؛ فإِذا سمعوا- اليومَ- سماعاً تجددت تلك الأحوال، فالانزعاجُ الذي يَظْهَرُ فيهم لِتَذَكُّرِ ما سَلَفَ لهم من العهد المتقدم.
ويقال أسمع قوماً بشاهد الربوبية فأصحاهم عن عين الاستشهاد فأجابوا عن عين التحقيق، وأَسمع آخرين بشاهد الربوبية فمحاهم عن التحصيل فأجابوا بوصف الجحود.
ويقال أظهر آثارَ العناية بدءاً حين اختصَّ بالأنوار التي رشت عليهم قوماً، فَمَنْ حَرَمَه تلك الأنوار لم يجعله أهلاً للوصلة، ومَنْ أصابَته تلك الأنوارُ أَفْصَحَ بما خُصَّ به من غير مقاساة كَلَفَة.